«الديانة المصرية» .. الرحم الذي أنجب ديانات الحضارات القديمة جميعها .
أجمع الباحثون علي أن مصر كانت مسرح أول ديانة بشرية ظهرت على وجه الأرض ، فكانت الديانة المصرية هي أولى ديانات هذا الكوكب البشري ، فلم تظهر ديانة في أي مجتمع بشري ، إلا ولها في عقائد وادي النيل عنصر، وأن كل الديانات التي ظهرت في بلاد الشرق القديم ليست إلا فتاتاً متساقطاً حول مائدة بلاد المصريين ، الذين سبقوا سكان الكرة الأرضية إلى حمل لواء المعرفة, وفتح كثير من مغلقات العلم, وحل ألغاز الكون.
كيف بدأت الخليقة ؟
"البداية كتلة ماء وفوضي كونية وخواء ، ثم جاء النظام الكوني" .. تلك كانت رؤية المصري القديم لنظرية الخلق ، والتي تؤكد علي عظمة الفكر والفلسفة المصرية القديمة ، باعتبارها من أوائل الفلسفات الدينية ، فطبقا لرؤيتهم كانت الفوضى هي الأصل ، حيث يجب أن تعم الفوضى ليأتي النظام مع الآله ، لذلك وجب احترام ممثلي الآله على الأرض ، وولي الأمر وكهنته من رجال الدين .
لكن السؤال الأهم هنا ، كيف نشأت الديانة المصرية القديمة ؟
وكيف تطورت مع مرور الزمن ؟
علينا أن ندرك أولاً أنه كان من الطبيعي أن تكون أول القضايا التي تشغل فكر الانسان المصري القديم ، قضيه تفسير هذا العالم الطبيعي ، وأصل وجوده ، فالإنسان المصري شأنه فى ذلك شأن كل البشر فى فجر التاريخ ،
فكيف جاء هذا العالم؟
ومن صنعه ؟ وما هي القوى التي تتحكم فى حركته ؟
وكيف يمكن إرضاء تلك القوى وتجنب شرورها ؟
وكيف يمكن استجلاب خيرها ونيل رضاها ؟.
لقد كان المصريون القدماء أول من آمن بعقيدة التكوين والبعث على ظهر الخليقة ، وأول من جهر بتلك العقيدة علانية ، وبالتالي كان لهم لاهوت خاص متعدد الصفات بكافه معتقداتهم ، منبثق من قلب اللاهوت الالهى ، واللاهوت المصري لمن لا يعلم سبق فى مجمله اللاهوت التوراتي بأكثر من ألفين عام ، إذ كان للمصريين السبق الأعظم فى المعرفة اللاهوتية ، وربما عن كافه اللاهوتيات الأخرى ، فأهم ما يميز الديانة المصرية أنها ليست من خلق مفكر واحد ، ولكنها نتاج للعديد من مختلف التيارات اللاهوتية والسياسية .
الحقيقة أن أجدادنا المصريون سبقوا كافه العلوم اللاهوتية الالهيه فى التكوين والبعث ، بل سبقوا كافه حضارات العالم فى تلك المعرفة ، فقد تطلع المصريون القدماء الي كل ما أحاط بهم من عناصر الوجود ، واهتدوا بعد تفكير عميق إلى نتائج عديدة كان من أهمها ، أولها ، أن في الوجود عناصر كثيرة تتحكم في حياة الخلق ومصائره بطرق مباشرة وغير مباشرة ، وثانيها ، أن كل عنصر من هذه العناصر تتكفل به قدرة إلهية تستوجب التقديس وتستحق العبادة ، وأخيراً أن هذه العناصر يترابط بعضها البعض ويمكن أن ترد جميعا الي أصل واحد قديم .
الأكثر من ذلك أن النصوص الهيروغليفية علي المعابد ، أظهرت أن المصري القديم توصل إلى سيرة الكون الذاتية ، ومن يتوصل لمعرفة سيرة الكون لابد أن يكون قد ألم بالعديد من النقاط الجوهرية لمن أوجده ، إذ يصعب تصور أن تأتي كل هذه العلوم من فراغ مطلق ، وان كان يظل السؤال هنا ، لماذا لم يتم توحيد المذاهب العقائدية المصرية في لاهوت واحد مطلق وابدي ، علي الأقل حفاظا علي الهيبة العقائدية والدينية ، وحتي لا تختلط الأمور بين الحقيقة الميتافيزيقية والأسطورة والخرافة ؟ وان كان البعض يري أن تلك الطريقة كانت تسهل على الكهنة انصياع العوام لهم ، ولينفردوا هم بالأسرار اللاهوتية التي تحفظ لهم هيبتهم .
خلاصة الأمر، كان المصريون القدماء يطورون أفكارهم تجاه رموزهم المقدسة أو كما يحلو للبعض تسميتها "ألهتهم"، فيؤلفون فيما بينهم ، وينظرون الي علاقتهم بقضية الخلق نظره فلسفيه ، تتجاوز الفهم المادي لعناصر الوجود ، الي ما وراء هذا العالم المحسوس ، واختلفت رؤيتهم الفلسفية لأصل الوجود ، نتيجة لاختلاف الظروف السياسية والاجتماعية تارة ، أو نتيجة للتنافس بين مدنهم تارة أخرى ، ونتيجة لدرجه النضج العقلي التي كانت تحكم هذه الرؤية تارة ثالثه .
تفسير الوجود
بدأت المدن المصرية المختلفة في طرح تفسيراتها للوجود حسب رغبتها واهدافها ورؤية كهنتها ، وسواء جاز أن نطلق لفظ مدرسه على أي من هذه التفسيرات ، أم لا ، فان الحقيقة التي لا شك فيها ، أن كل من تلك المذاهب قد انطلق من إحدى المدن فى ذات الوقت الذى شهدت فيها ازدهارها السياسي والحضاري والاجتماعي والثقافي ، وان كان أغلب تلك المذاهب تم اكتشافها وتناقلها شفاهه قبل اختراع الكتابة ، وحتى بعد اكتشافها تكاسل المفكرين عن تسجيلها ظنا منهم أنه من الأفضل أن يتناقلوها شفوياً ، علي أن يتوارثوه جيلا بعد جيل ، حتي يزدادوا تقديساً له .
بدأ الانسان المصري يدرك أهمية أن يميل لتفسير كل مظاهر الكون تفسيرا دينيا ، حيث اعتُبر النيل تجسيدا للإله "نون" والشمس الإله "رع" والسماء المعبودة "نوت" والأرض المعبود "جب"، وقد فسر الشروق والغروب بأنها رحله الإله "رع" أله الشمس ، وأن الكسوف والخسوف هما العقبات التي تواجه هذا الإله ، كما فسر الهواء على أنه أطراف الإله "أمون" ، وبعد أن اكتملت أركان الديانة فى عصور ما قبل التاريخ ، ومرورا بمذاهب الخلق فى عهد الأسرات ، فان هذه الديانة كغيرها من جزئيات المجتمع تتغير حسب المتغيرات المجتمعية .
وقد تغيرت الديانة المصرية حسب فترات الضعف والعصور الانتقالية ، وعلى النقيض تماما فى عصر الإمبراطورية ، كما حدث دمج بين كثير من الآلهة ، خاصة اله الشمس "رع" ولعل أهم التطورات كانت تأليه شخصيه الملك حيث أصبح الملك هو ابن رع ويمثل الصقر "حورس" ، كما سيظهر فيما بعد فى مذاهب الخلق ، كما أصبح الملك ضلعا أساسيا فى مثلث الإنتاج إلى جانب الضلعين الآخرين الماء والهواء ، وأصبحت عبقرية الضلع الثالث فى مثلث الحضارة ، إلى جانب الضلعين الآخرين ، الحاجة والإمكانية ، وإصباغ نوع من القداسة والمهابة علي الحاكم والحكم معا ، ولا نظن إن هذا جاء صدفه .
مذاهب الخلق
كما قلنا سابقاً ، وكعادة الإنسان القديم ، كانت أهم الأشياء التي شغلت فكر المصري القديم هي أصل الخلق ، لذا ظهرت العديد من الأساطير حول بداية الآلهة ، وخلق الكون ، وقد كانت هناك ثلاثة أساطير حول قضية الخلق والنشأة ، تلك الأساطير جاءت تبعا لثلاث نظريات مختلفة ، الأولي تنسب لمدينة "هليوبوليس" ، والثانية لمدينة "اشمونيين" ، والثالثة لمدينة "منف" وان كانت الغلبة دائما لأسطورة "هليوبوليس" وان شابه بعض المزج مع نظريتي الأشمونين ومنف ، وفي النهاية علينا أن نتعرف علي تلك النظريات الثلاث لندرك فلسفة الخلق عند المصريين.
المذهب الشمسي :
منذ سبعه آلاف عام مضت ، وفي مدينه "اون القديمة" والتي عُرفت في عهد الإغريق باسم "هليوبوليس" والتي سُميت فيما بعد بإسم "عين شمس" ظهرت عبادة الشمس ، وقد اعتقد المصري القديم أنه في موقع تلك المدينة بدأ خلق الحياة .
والحقيقة أن نقوش العديد من الأسر المبكرة سجلت لنا صورة واضحة لتلك المدينة المصرية التاريخية ، والتي أضحت بمرور الزمن مركز لعبادة اله الشمس ، تلك النقوش كشفت أن فكرة نشأة الكون تعود الي أقدم مذهب شمسي معروف في تفسير نشأة الوجود ، وربما يرجع هذا المذهب إلى عصور ما قبل التاريخ في الحضارة المصرية القديمة ، وان كان أقدم تسجيل لنص هذا التفسير شبه المتكامل ، وجد داخل هرمي "مرن رع _ بيبي الثاني" أي أن النص يعود إلي فترة حكم الأسرة السادسة ، منذ حوالي 4300 سنة مضت .
وتتلخص فكرة تلك النظرية من واقع ذلك النص
في أن الكون قد نشأ من ماء غير مشكل يسمى "نون" انبثق منه الإله "آتوم" الذي ظهر فوق "التل الأزلي" أو ما يسمى بـ"بن بن" وهو أول تل يظهر على صفحة الماء ، حيث كانت المياه تغطي الأرض بالكامل ، طبقاً لمعتقدات قدماء المصريين وعندما ظهر هذا "التل الأزلي" وقف على حجر هرمي الشكل ، وهو الذي أصبح رمزاً مقدساً لإله الشمس ، وقد أثر الشكل الهرمي لـ"التل الأزلي" في حياة المصريين الدينية ، حيث اتخذ منه الملوك المصريين الشكل الهرمي لمقابرهم في الدولتين القديمة والوسطي ، كما اتخذت قمة المسلة في الدولة الحديثة نفس الشكل الهرمي تمجيداً للإله "أتوم" .
وطبقا لنظرية الخلق الشمسية ، عطس "أتوم" فخلق الإلهين "شو" و"تفنوت" وهما يمثلان الهواء والرطوبة ، وأنجبا بدورهما إلهين هما "جب" إله الأرض ، و"نوت" إله السماء ، ثم تزوج "جب" من "نوت" لينجبا أربعة أبناء ، وهما "أوزوريس - إيزيس - ست - نفتيس " وتذكر النصوص الدينية أن هؤلاء الآلهة الأربعة وعلى رأسهم "آتوم" قد حكموا العالم واحداً بعد الآخر، وكونوا جميعا مجمع الآلهة التسعة أو ما يسمي بـ"التاسوع الإلهي" والذي يعتبر كياناً إلهيا واحداً ، ومنه اشتقت النظرية الكونية ، من خلال تصوير الكون على هيئة ثالوث تكون من "شو" إله الهواء يقف ساندا بيديه الجسد الممدد لربة السماء "نوت" ويرقد الإله جب عند قدميه .
الدارس المتأمل لتلك النظرية سيجد أن المصريين نظروا الي الخليقة بنظرة البداية الحقيقية ، بداية لم يكن قبلها هناك ارض أو سماء أو بشر أو أي كائن كان ، وأن الكون لم يكن سوي العدم المطلق ، يشغله كيان مائي لا نهائي ، ومن وسط هذا الكيان المائي ظهرت الروح الإلهي العظيمة ، وهو كما قلنا "أتوم" والذي يعني باللغة المصرية القديمة معنيين متضادين، وهو العدم الشمول .
و قد ظهر "آتوم" لأول مرة علي قمة الجزيرة الأزلية ، وكان الرمز الذي يعبر عن تلك الجزيرة يعني باللغة الهيروغليفية "ظهور مجيد" ، ولوحة جداريه لجسم مرتفع ينطلق منه أشعة الشمس ، فيصور من خلاله ظهور الإله الخالق ، ومنه خُلق التاسوع الإلهي
ماذا عن الوظيفة المكلفة للأرباب الأربعة لصنع الوجود ، فقد ساهموا في تهيئة الوجود ، من كائنات حية مختلفة ، فقد تكفل "أوزير" في الأرض بأمر الفيضان والخصب والنمو، في حين تكفل "ست" بأمر أمطار السماء ورعدها وأعاصيرها وكان معهما زوجتيهما ، " إيزيس " و " نفتيس " ليكتمل أصل الوجود الكوني .
وكأي مذهب ديني ، ظهرت عدد من التفريعات في المذهب الشمسي ، كان أبرزها ذلك التفسير الذي ربط بين الإله "آتوم" والإله "رع" والذي كان يُعبد ويدين به الكثيرون ، مما اضطر معه أهالي مدينه "اون" أن يجددوا في عقيدتهم الدينية والفلسفية ، علي أن يتم دمج رع بآتوم ، وقد عبر نص من الفصل السابع عشر من كتاب الموتى ، كُتب خلال الأسرتين الثامنة عشر والواحدة والعشرين ، يوضح هذا التطور، فقد قال نصاً ،
"إني الإله آتوم في شروقه الواحد الوحيد ، أتيت إلى الوجود في نون ، إني رع الذي نهض في البدء وحكم ما قد صنع" ، فبدا "رع" وكأنه ليس اله جديد يضاف إلى آتوم ، بل هو آتوم نفسه ، وهكذا استمرت التأويلات المختلفة للمذهب الشمسي تتوالى واحدا بعد الأخر، تبعا لتطور الظروف الدينية والسياسية التي مرت على مدينه "اون" موطن المذهب الأصلي .