"التحنيط" عند المصريين القدماء .. بوابة الروح لحياة ما بعد الموت
قديمًا ، وقبل أن يتطور علم التحنيط ، أي عصر ما قبل الأسرات ، كان المصري القديم يعتمد علي التحنيط بالطرق الطبيعية ، فكان يقوم بدفن الجثث في حفر غير عميقة في الرمال ، فالحرارة الشديدة كانت كفيلة بحفظ الجثث من التلف وامتصاص السوائل ، ومع بداية عصر الأسرات ، زاد الإيمان بفكرة حياة ما بعد الموت ، وأهمية الجسد لتتعرف عليه الروح ، فصار المعتقد السائد أن الأمر لا يتوقف عند تحنيط الجسد والحفاظ عليه من العفونة ، وإنما يجب أن يصل للحفاظ على شكل وملامح الميت ، بحيث تتمكن الروح من معرفة الجسد الذي يخصها ،
فتبحر العلماء في ذلك العلم حتى وصلوا إلى أقصى درجاته ، ولعل ذلك يظهر جليا في صمود مومياوات يعود تاريخها إلى أربعة آلاف عام قبل الميلاد ، دون أن يصيبها تحلل أو عفونة .
كان حفظ الأجساد من التعفن والتحلل ، يُعد أحد أهم أسرار المصريين القدماء ، والتي حافظوا عليها باستماتة ،
أطلق على ذلك العلم الكثير من الأسماء، منها كلمة "وتي"، وهي كلمة مصريه قديمه تعني التكفين ، كما أطلق عليه كلمة "مومياء" وهي لفظة فارسية تعني اللون الأسود ، فعادة ما يتغير لون الجثة بعد عملية الحفظ إلى ذلك اللون ، أما كلمة "تحنيط" فهو الأسم الأشهر لذلك العلم ، وهي كلمة عربية أشتقت من كلمة "حنوط"، التي تطلق على مواد يستخدمها المحنط في حفظ الجثمان .
ظل ذلك العلم سرا من أسرار المصريين ، حتى أننا لم نكن نعلم عنه سوى ما ذكره المؤرخ اليوناني هيرودوت ، فقد دون بعض طرق التحنيط أثناء زيارته لمصر في القرن الخامس قبل الميلاد ، لكن مع الإكتشافات الحديثة زادت معلوماتنا عن ذلك العلم ، خاصة عندما اكتشفت البعثة الأمريكية التابعة لجامعة ممفيس الأمريكية المقبرة رقم 63 بوادي الملوك ، والتي احتوت على 8 توابيت ، بداخلهم بقايا أدوات ومواد خاصة بالتحنيط ، والتي استخدمت في حفظ مومياء الملك توت عنخ آمون ، ما فتح بابًا كبيرًا لكشف أسراره الخفية .
استخدم المحنط المصري القديم أساليب مختلفة في عمليات التحنيط ، فكانت هناك طريقة يستخدمها مع الملوك وكبار رجال الدولة ، ولكنها باهظة التكاليف ، وفيها تبدأ عملية التحنيط داخل خيمة الإله أو المكان المطهر، والذي كان يُطلق عليه باللغة الهيروغليفية "بر – عبد"، حيث توضع الجثة على منضدة التحنيط الحجرية ويبدأ المحنط بكسر عظمة الأنف باستخدام أزميل ومطرقة ، ثم يتناول صنارة معقوفة ويقوم بإخراج المخ من الفتحة التي صنعها ، ويملأ الجمجمة بطبقة سميكة من البيتومين والكتان المشبع بالصمغ أو بالراتنج المستخلص من النباتات ، حتى يحفظها من الكائنات الدقيقة التي تتوالد داخل الجثث.
الدراسات التي أجريت على مومياوات بعض الملوك منهم تحتمس الأول والثاني والثالث ، أكدت على أن رأسها تحتوي على المخ ، مما يؤكد أن المصري القديم لم يتبع تكنيكا نمطيا في تحنيط الأجساد ، ومع الدراسات المتوالية لمومياوات المصريين القدماء على مدار الأسر، ثبت أن المحنط لم يلتزم بطريقة واحدة في التحنيط ، حتى إنه من الصعب أن نجد مومياوتين متشابهتين سواء في طريقة التحنيط أو في المواد المستخدمة .
أما الخطوة الثانية ، فيقوم بها المحنط ليتخلص من كل المواد الرخوة التي تسبب التعفن البكتيري ، فيشق الجانب الأيسر من أسفل البطن ، ومنها ينزع كل الأعضاء الداخلية، ويغسلها جيدا ثم يغمرها بملح النطرون، ويقوم بمعالجتها بمادة الراتنج الساخنة ، ثم توضع في أربعة أواني كانوبية على شكل أولاد الإله حورس ، فالكبد يوضع في وعاء "إمستي" على شكل إنسان ، والرئتين توضع في إناء "وحابي" والمعدة في وعاء "دوا – موت – إف" وهو على هيئة رأس ذئب "إبن آوي" بينما توضع الأمعاء في وعاء "قبح – سنو – إف" ذو رأس الصقر .
لا يترك المحنط في الجسد سوى القلب والكليتين ، ثم يقوم بغسله من الداخل والخارج بمحلول مكون من 15 مادة ، منها نبيذ البلح ، ونبات المر، والحناء ، وزيت خشب الأرز، والبصل ، ثم يملأ تجاويف الصدر بكور من الكتان المشبع بالراتنج والعطور ومحلول النطرون ، وهي مواد تمنع التحلل البكتيري ، بعد ذلك تدفن الجثة داخل ملح النطرون لمدة تصل إلى 40 يوما, حتى تجف الأنسجة تماما من كل السوائل والدهون .
يُنقل الجثمان مرة أخرى إلى "بر – عبد" ، ليتمكن الكهنة من تطهيره بمياه النيل، وتعتبر تلك الخطوة أهم ما في مراحل التحنيط ، لتحديد الوقت اللازم لتحضير الجسد ، إلى جانب إيمان المصريين القدماء بقوة النيل في بعث الإنسان مرة أخرى، وتكتمل عملية التطهير بإضافة زيت الأرز والزيوت النفيسة والعطور، وتدليك المومياء بالبخور والقرفة .
وفي النهاية يُصب على المومياء الرايتنج السائل ، ومهمته إغلاق المسامات ، باعتباره عازلًا للرطوبة والحشرات الدقيقة ، بعدها يقوم المحنط بإغلاق العينين والأذنين والأنف بالشمع ، ثم يلف المومياء بالكامل بعشرات الأمتار من الكتان المشبع بالصمغ ، والذي يحمل في طياته التمائم ولفافة البردي الجنائزي ، ويزينها بالحلي ويلقي عليها الزهور، ليتبقى أمامه الطقس الأخير لإكتمال المراسم الجنائزية فيقوم بترتيل الصلوات وفي تلك الأثناء يقوم بفتح فم المومياء ، لتتمكن حواسها للعودة مرة أخرى في العالم السفلي ، وأخير يضعها في التابوت الذي يحمل قناعا يشبه ملامح المتوفي ، ومزخرف بعبارات من كتاب الموتى ، ثم يدفن داخل مقبرته التي تحتوي على كافة الأغراض التي يحتاجها في رحلته إلى العالم الآخر .
أما العامة ومتوسطي الحال فكانت توجد خطوات أكثر بساطة وأقل بذخًا في تحنيط موتاهم ، واستمرت تلك الطقوس حتى ظهور المسيحية ، ولكنها تراجعت بشكل ملحوظ في العصر الروماني والهيلينستي ، حتى أن جودة الحفظ كانت أقل من العصور السابقة ، وإن كان أضيف إليه القليل ، حيث أضيفت على المومياء لفة من الكتان يكللها قطعة ذهبية في المنتصف ، بالإضافة إلى حفظ الأطراف أو الجسد بالكامل بطبقة من الذهب ، وفي العصر البيزنطي توقف إستخدام التحنيط وتطويره.
.