[center][size=18][color=#cc3300]المسيحيه فى مصر [/color][/size][/center]
[center][size=16][color=#0000cc]الكاتب والباحث : طارق حسن [/color][/size][/center]
[right]المسيحية هي ثاني أكبر ديانة في مصر ، ويشكل أتباعها حوالي 10% من سكان مصر وغالبًا ما يلقب المسيحيون
المصريون بالاقباط ، وينتمي أكثر من 95% من المسيحيين المصريين إلى الكنيسة القبطية الارثوذكسيه ، وهي من
الكنائس الارثوذكسية وهي أكبر طائفة مسيحية في الشرق الأوسط. وتحتل الكنيسة المصرية الارثوذكية مكانة هامة اعتبارها كنيسة وطنية مصريَّة، فقد تأسست في القرن الاول على يد مرقس الرسول.
تشكل مصر أكبر تجمّع مسيحي داخل الشرق الاوسط وشمال افريقيا وإحدى أكبر التجمعات المسيحية فى العالم الاسلامى
كانت مصر في طليعة البُلدان الشرقيَّة التي تسرَّبت إليها المسيحيَّة في القرن الاول الميلادى ، وانتشرت تدريجيًّا في جميع أنحاء البلاد في القرن الثانى ، وقد كانت الاسكندرية مركزًا هامًا خلال العصور الأولى للمسيحية. وتاريخُ المسيحيَّةِ في مصر يبدأ بِهجرة العائلة المقدسة إليها هربًا من ظُلم هيردوس الاول ملك اليهودية حسب القرأن الكريم ورواية الانجيل ، وبعدها بِسنوات أقبل بعض الرسل إلى مصر داعين الناس إلى ترك عبادة الأوثان وعبادة الله، وأقبل الرسول مرقس ، فأنشأ الكنيسة المرقسيَّة في الإسكندريَّة، التي انتقلت إليها زعامة المسيحيَّة لاحقًا، وفيها كتب انجيله .
استمرَّت مصر في ظل العُهود الإسلاميَّة المُتتالية إحدى أبرز وأهم معاقل المسيحية الارثوذكية في العالم لِاحتضانها الكرسى الباباوى الارثوذسكى وطور الاقباط فى مصر هوية عرقية مميزة وتم استهدافهم واضطهادهم
عبر التاريخ، حيث عانى الأقباط من الاضطهاد الدينى فى عصور مختلفة تاريخيا ، ويعد العصر الحالى هو اكثر عصورهم امانا واستقرارا نظرا لكونهم نسيج وطنى لا ينفصل عن الجسد المصرى
[size=18][color=#cc3300]العصور المسيحية المبكرة[/color][/size]
بحسب التقاليد الكنسية المتوارثة فإن القديس مرقس هو مؤسس الكنيسة القبطية ولذلك تسمى "الكنيسة المرقسية" . القديس مرقس هو أحد الرسل السبعين الذين اختارهم يسوع وأطلقهم لنقل البشارة . وقد ورد ذكره في سفر اعمال الرسل كأحد مرافقي القديس بولس فى انطاكيا وقبرص ، وأحد أتباع القديس بطرس وتلامذته ، ومن ثم هو أيضًا كاتب الانجيل الثانى فى العهد الجديد والمنسوب لشخصه عن ذكريات نقلها إليه بطرس . أصل القديس مرقس غير معروف ، وإن كانت بعض التقاليد وبعض كتابات أباء الكنيسة تعيده إلى مدينة برقة الليبية وصل القديس مرقس إلى الاسكندرية حسب ما يتفق عليه المؤرخون الأقباط حوالي عام 61 ويرجع البعض الآخر ذلك لعام 55 قادمًا من ليبيا حيث بشّر هناك أولاً بعد أن عاد من روما على ما يذكر ساويرس بن المقفع في كتابه "تاريخ البطاركة" وفيها كانت أولى أعماله اجتراح أعجوبة شفاء انيانوس الذي كان يعمل إسكافيًا ، ومن ثم اعتنق إنيانوس المسيحية وغدا أسقفا ومن ثم البابا الثانى فى الاسكندرية . وفق معتقدات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية فإن عجائب القديس مرقس قد تعددت ، ما ساهم في انتشار المسيحية في المدينة ، ومن ثم حوّل إحدى المنازل لأول كنيسة فيها ، عرفت فيما بعد باسم بوكاليّا ، على ما ذكر المؤرخ يوسابيوس وأقام أيضًا مدرسة لاهوتية صغيرة كان القديس يسطس أول مدرسيها ، وهو غدا يسطس فيما بعد بابا للإسكندرية ، وينسب للقديس مرقس في الإسكندرية أيضًا القدّاس المعروف باسم "القدّاس الكيرلسي" الذي لا يزال معمولاً به إلى اليوم.
تنقل التقاليد الكنسيّة ، أن القديس مرقس غادر الاسكندرية في رحلة تبشيرية إلى ليبيا وروما من جديد ، ومن ثم عاد إليها وقد نما وتكاثر عدد المسيحيين فيها ، ما أثار احتكاكات مع الوثنيين وأتباع الأديان الأخرى ؛ تزامن ذلك مع حقبة من اضطهاد المسيحيين على يد الامبراطورية الرومانية بدأت في روما نفسها على يد نيرون ، وقد استمرّ الاضطهاد مستمرًا في مختلف أصقاع الإمبراطورية ردحًا طويلاً ، كان أحد ضحاياه عام 68 القديس مرقس نفسه . طريقة موت القديس مرقس ، حسب التقاليد القديمة للكنيسة القبطية والكنائس المصريّة بشكل عام ، هي السحل استنادًا إلى وصف ابن المقفّع ، صاحب النمو المطرد للمسيحيين في الاسكندرية وضواحيها أواخر القرن الاول ، مع اضطهاد روماني ، فإثر وفاة هذا البابا عام 93 لم ينتخب خلفه حتى عام 95 بسبب الاضطهادات وملاحقة المسيحيين، الأمر الذي استتبع في عهد رابع البطاركة كردونوس والمعروف باسم اضطهاد تراجان والذي بدأ عام 98 وكان من نتائجه قتل البطريرك نفسه عام 106 وعلى الرغم من ذلك فقد توافق الأساقفة على بطريرك جديد ، ما يدلّ، أنه وعلى الرغم من الاضطهاد الذي لحق بالمسيحيين بعض نصف قرن تقريبًا على تواجدهم في الاسكندرية ، إلا أن أساس كنيستهم كان من القوّة بحيث لم ينقرض أو يباد باختلاف أنواع الاضطهاد ، بما فيه قتل البابا نفسه.
[size=18][color=#cc3300]صعود المسيحية[/color][/size]
يقدم ويل ديورانت بعض المميزات الاجتماعية للجماعات المسيحية في القرون الأولى ، بما فيها جماعة مصر. فقد كانت الجماعات المسيحية الأولى مؤلفة بشكل رئيسي من البسطاء وطبقات الشعب الوسطى والفقيرة دون أن تضم علية القوم ومثقفيهم ، رغم وجود المنتقلين إلى المسيحية باكرًا من مثل هذه الطبقات غير أنهم ظلوا أقلية . تساعد الجماعة العائلات الأكثر فقرًا فيها وتمدّ بالوقت نفسه حركات التبشير بالأموال ؛ وقد تركزت بالمدن الكبرى أكثر من انتشارها في الأرياف ما أدى إلى محافظة هؤلاء على أديانهم القديمة مع تمدد المسيحية في المدن ، حتى باتت لفظة قروي في بلاد الشام ومناطق مختلفة من الامبراطورية الرومانية توافق كلمة وثني.
ومقابل عدم الاستقرار في الزيجات ضمن المجتمع ككل ، كان التزام الزوج والزوجة في المسيحية دورًا هامًا في تقوية أركان الجماعة المسيحية ، وتأمين حياة كريمة لها وللأطفال ، الذين تزايد عددهم بطول مدة الزواج. سوى ذلك ، فإن الآرامل والعازبات من النساء كان يستفاد من خدماتهنّ بالأعمال اليدوية البسيطة وفي خدمة الكنائس والعناية بالمرضى ورعاية العجزة وإدارة الصدقة للمسيحيين وغيرهم ، ما ساهم بانتشار المسيحية، وتأسيس غير مباشر للرهبنة ، ووصف المؤرخ الروماني الوثني لوقيان الجماعة المسيحية ، بأنها تقتسم جميع ممتلكاتها المادية مع بعضها البعض، كائنين بذلك على صورة العهد الجديد فكانت الأخلاق المسيحية عاملاً من عوامل انتشار الديانة ، وازدجارًا لقيم المجتمع الإغريقي ، ووضعًا لقانون يهذب حياة الإنسان ، خصوصًا بعد فشل الفلسفة الرواقية في الأخلاق.
أما على صعيد الكنيسة ، فقد كان القرن الثانى بدوره حافلاً : انتخب ابريموس عام 106 وأصبح لمدرسة الاسكندرية اللاهوتية شأنًا هامًا في أيامه وتكاثر عدد الكنائس في مصر وخارجها ، غير أن الإمبراطور هادريان أمر باضطهاد المسيحيين ونفيهم خارج المدن ، ومن ثم أمر بهدم الكنائس.
وبعد وفاته عام 118 اختير يسطس بطريركًا والمعلومات حول بطريركيته قليلة للغاية رغم ذكره في كتابات المؤرخين الأقدمين كيوسابيوس النيقموميدى وذكره كذلك في كتابات المؤرخين الأقباط خلال مرحلة القرون الوسطى وما بعدها ؛ ولم يستراح المسيحيون في أيامه من الاضطهاد وكذلك في أيام خلفه أومانيوس عام 129 وحتى 141، وقد كان هذا البابا رئيسًا للمدرسة اللاهوتية في الإسكندرية ، إذ اشتدّ اضطهاد هادريان خلال حبريته ، وقتل خلاله مئات الأقباط ومن بينهم القديسة صوفيا ، التي نقل جثمانها لاحقًا إلى القسطنطينية وشيدت أيا صوفيا خلال أيام قسطنطين الاول فوق ضريحها.
هدأت الاضهادات في عهد خليفته مرقيانوس وكذلك في عهد كالاديانوس، ويعود السبب في ذلك إلى اعتلاء عرش الإمبراطورية ماركوس اوريليوس وقد كان يميل إلى التسامح يحلم بإقامة الجمهورية الفاضلة التي تحدث عنها افلاطون وقد أشرك الفلاسفه والحكماء في حكمه.
ومنذ منتصف القرن الثانى قدّمت الكنيسة القبطية عددًا وافرًا من أباء الكنيسة ومعلميها الأوائل الذين لا تزال مؤلفاتهم يدرسها طلاب اللاهوت حول العالم يدرسونها حتى اليوم : منهم اوريجانوس الذي ألف أكثر من ستة آلاف كتاب حول تفسير الكتاب المقدس ، والقديس اكليمنداس الاسكندرى الذي زاوج خلال دراسته في المدرسة اللاهوتية بالاسكندرية بين الفلسفة اليونانية واللاهوت المسيحي ، ما ساهم في نقل مبادئ الدين إلى لغة مثقفي ذلك العصر من ناحية ، وانفتاح المسيحية على العلوم من الناحية الثانية ، ويضاف إليهم أثينا غوراس والقديس بنتينوس .
يذكر أن بعضًا من أهم أباء الكنيسة اللاحقين في الغرب المسيحى كالقديس اوغسطين والقديس جيروم قد تأثروا بكتابات آباء المدرسة اللاهوتية في الإسكندرية وكتاباتهم ، أما على صعيد الإنجازات الأخرى خلال القرن الثانى تسجل أول ترجمة للكتاب المقدس إلى اللغة القبطية بعد أن كان منحصرًا باليونانية التي يجيدها متعلمو الشعب فحسب ، وقد وضع في عهد البطريرك ديمتريوس (191 - 232) أول تقويم معتمد لحساب مواقيت الأعياد والأزمنة الطقسية ، وسيقوم مجمع نيقيه في وقت لاحق بتثبيت هذا التقويم للكنيسة بأسرها خصوصًا فيما يتعلق بحساب موعد عيد الفصح ، وجاء في قرار مجمع نيقية أن يقوم بطريرك الإسكندرية ، لتقدّم المدينة في علوم الفلك والحساب ، بتحديد موعد العيد وإخطار سائر البطاركة بالموعد، ليصار إلى الاحتفال به . توفي ديمتريوس بعد بطريركية طويلة عام 232 ، ولم يحدث في حبريته ولا في حبرية سلفه يوليانوس (178 - 188) أي اضطهاد عنيف ضد المسيحيين، غير أن التضييقات لم تتوقف ، فحظر على الأساقفة خلال عهده مغادرة الإسكندرية . غير أنّ البابا كان يغادرها سرًا، لتعيين القسس الجدد في القرى والمدن الأخرى . ويقول المؤرخ تراتليان ، أن ربع سكان الشرق بختام القرن الثانى كانوا من المسيحيين.
ولعلّ من أبرز مساهمات الكنيسة المصرية خلال القرن الثانى مقارعة الحركة الغنوصية وهي جماعة دينية توأمت بين المسيحية والمعتقدات التي كانت سائدة سابقًا ، كان رهبانها يغرقون في التأمل والفلسفة للوصول إلى المعرفة التامّة ، والتي بمقدور كل إنسان الوصول إليها وبالتالي الوصول إلى الله فهي شبيهة بالمذهب الحلولي في الأزمنة المعاصرة، وانطلاقًا من كونهم يعتمدون على التأمل الذاتي للوصول إلى المعرفة سمّوا جماعة العرفان ، وهي الترجمة العربية لمصطلح غنوصية في اليونانية ظلت المعلومات قليلة عن الغنوصيين حتى أواسط القرن العشرين حين اكتشفت مجموعة من المخطوطات في مصر ساهمت في إماطة اللثام عن معتقدات هذه الجماعة نوعًا ما، إذ دلّت المخطوطات المكتشفة ومنها مخطوطات نجع حمادى إلى أن الغنوصيين قد أفرزوا أناجيل خاصة بهم، ونسبوها إلى شخصيات كنسية شهيرة ، وتهدف هذه الأناجيل الغنوصية إلى نقل وجهة النظر أو العقائد والفلسفات الخاصة بهذه الجماعة إلى العموم، مثلاً إحدى العقائد الغنوصية كما اكتشفت في انجيل يهوذا توضح أن الغنوصيون ينظرون إلى يهوذا الاسخريوطى مسلم يسوع بكونه شريكًا في الخلاص والفداء ؛ قاومت الكنيسة الحركة الغنوصية من خلال أباء الكنيسة ولاهوتيها الذين ألفوا كتبًا داخل مصر وخارجها، حول أصول الإيمان المسيحي، وتذكر في هذا الخصوص كتابات اوريجانوس واكليمندس الاسكندرى ، ما ساهم في فقدان الغنوصية لقوتها قبيل نهاية القرن الثانى ، غير أن اختفائها كليًا استغرق قرونًا عدة.
[size=18][color=#cc3300]عصور الاضطهادات[/color][/size]
أيقونة قبطية يظهر بها التسعة وأربعين شيخًا من شيُوخ شيهيت في دير الانبار مقار بِوادي النطرون،
الذين قُتلوا على يد البربر سنة 444م ، في إشارةٍ إلى ما قاساه المسيحيّون الأوائل في مصر من اضطهاداتٍ مُتكررة.
إن المشكلة الأساسية التي عانت منها الكنيسة المسيحية في القرنين الثاني والثالث تمثلت في الاضطهادات الرومانية من قبل الامبراطورية الرومانية فمنذ صدور مرسوم طرد المسيحيين من روما حوالي العام 58 وحتى العام 312 عانى المسيحيون من شتى أنواع الاضطهاد كان أقساها اضطهاد نيرون الذي شمل حريق روما ، دومتيانوس الذي استمر سبعة وثلاثين عامًا واتخذت بداية هذا الاضطهاد أصل التقويم المعروف باسم التقويم القبطى أو المصري ، وحسب مراجع الكنيسة القبطية الارذوثوكسية فقد قتل مئات الآلاف خلال هذا الاضطهاد ، تراجان ، ماركوس اوريليوس ، سبتيموس سيفيروس ، ماكسيمين ، ديكيوس ، دالينوس ، اورليان ، دقلديانوس وهي ما تعرف عمومًا في التاريخ المسيحي باسم الاضطهادات العشر الكبرى.
حيث تعارضت التعاليم المسيحيَّة مع المفاهيم الرومانيَّة الوثنية المُتعلِّقة بِتأليه الإمبراطور وعبادته ، ورفض المسيحيين الخدمة في الجيش الرومانى واتخذوا الأحد أوَّل أيَّام الأُسبوع لِيكون فُرصةً لِمُباشرة طُقوسهم الدينيَّة، لِذلك رأت الحُكومة الرومانيَّة أنَّ اعتناق المسيحيَّة هو جُرمٌ في حق الدولة، وعدَّت المسيحيين فئة هدَّامة ، تُهدد أوضاع الإمبراطوريَّة وسلامتها ، فمنعت اجتماعات المسيحيين ، ونظَّمت حملات الاضطهاد ضدَّهم . بدأت هذه الحملات ضدَّ مسيحيين مصر أثناء حُكم الإمبراطور سبتيموس سفيروس (193 - 211م).
وظلَّ هؤلاء يتعرَّضون لاضطهادٍ كبيرٍ ، وتسامُحٍ قليلٍ إلى أن تولّى دقلديانوس (284 - 305م) عرش الإمبراطوريَّة ، حيثُ بلغ اضطهادُ المسيحيين حدَّهُ الأقصى . قاوم المسيحيّون في مصر هذا الاضطهاد بِقُوَّةٍ وعناد ، وقد انبثقت عن هذه المُقاومة حركةً قوميَّة أخذت تنمو تدريجيًّا، وليس أدلَّ على ذلك من أنَّ الكنيسة القبطيَّة بدأت تقويمها ، الذي سمَّتهُ «تقويم الشُهداء» ، بالسنة الأولى من حُكم دقلديانوس ، وذلك نتيجةً لِما خلَّف الاضطهاد من أثرٍ كبيرٍ في نُفوس المصريين . وتحسَّن وضع المسيحيين في مصر بعد أن اعترف الإمبراطور قسطنطين الاول بالمسيحيَّة دينًا مسموحًا به ضمن الديانات الأُخرى في الإمبراطوريَّة ، بِموجب مرسوم ميلانو الشهير في سنة 343م ثُمَّ بعد أن أصبحت المسيحيَّة الدين الرسمي الوحيد للإمبراطوريَّة في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الاول (379 - 395م ).
[size=18][color=#cc3300]الإمبراطورية البيزنطية[/color][/size]
لم تنعم مصر طويلًا بالنصر الذي أحرزتهُ المسيحيَّة ، إذ ثار الجدل والنزاع مُنذُ أيَّام قُسطنطين الأوَّل بين المسيحيين حول طبيعة المسيح ، وقد تدخَّل قُسطنطين الأوَّل في هذه النزاعات الدينيَّة البحتة وعقد مجمع نيقية سنة 325م من أجل ذلك ، وناقش هذا المجمع مذهب القس أريوس السكندرى الذي أنكر صفة الشبه بين الاب والابن ، وعدَّ أنَّ ابن الله ليس إلَّا مخلوقًا، فأنكر بذلك أُلوهيَّة المسيح، وتقرَّر بُطلان مذهبه والإعلان عن أنَّ الابن من جوهر الأب نفسه.
واتَّخذ مُعظم الأباطرة الذين جاؤوا بعد قُسطنطين الأوَّل موقفًا عدائيًّا من مُعتقدات المسيحيين في مصر، ممَّا أدَّى إلى احتدام الجدال والنزاع الديني بين كنيستيّ الإسكندريَّة والقُسطنطينيَّة ، وقد بلغ أقصاهُ في مُنتصف القرن الخامس الميلادى حينما اختلفت الكنيستان حول طبيعة المسيح . فاعتقدت الكنيسة القبطيَّة بأنَّ للمسيح ، طبيعة الهية واحدة ( مونوفيزية ) وتبنَّت كنيسة القُسطنطينيَّة القول بِثُنائيَّة الطبيعة المُحدَّدة في مجمع خلقدونية ، ورأت أنَّ في المسيح طبيعة بشريَّة وطبيعة إلهيَّة ، وتبنَّت هذا المذهب لِيكون مذهبًا رسميًّا للإمبراطوريَّة ، وأنكرت نحلة المونوفيزيتيين ، وكفَّروا من قال بأنَّ للمسيح طبيعة واحدة ، كما حرموا ديسقوروس بطريرك الإسكندريَّة حرمانا كنسيا لم يقبل ديسقوروس ولا مسيحيين مصر ما أقرَّهُ مجمع خلقدونيَّة وأطلقوا على أنفُسهم اسم الارثوذكس أي أتباع الديانة التقليديَّة الصحيحة ، وعُرفت الكنيسة المصريَّة مُنذ ذلك الوقت باسم «الكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة ، ومال المصريّون إلى الانفصال عن الإمبراطوريَّة، فأعلنوا التمرّد ، وكانت أولى مظاهره إلغاء كنيسة الإسكندريَّة استخدام اللغة اليونانية في طُقوسها وشعائرها واستخدمت بدلًا منها اللغة القبطية وسُرعان ما تطوَّرت الأُمور في الإسكندريَّة إلى قلاقل دينيَّة عنيفة اتخذت صفة الثورات الوطنيَّة ، تعرَّض خلالها المصريّون لِأشد أنواع الاضطهاد ولم تقمعها السُلطات إلَّا بعد أن أراقت دماء كثيرة . وعندما استولى هرقل على الحُكم ، رأى أن يُنقذ البلاد من الخِلاف الديني ، وأمل المصريّون بانتهاء عهود الاضطهادات وإراقة الدماء ، لكنَّ النتيجة جاءت مُخيبة للآمال مرَّة أُخرى ، إذ عهد هرقل بالرئاسة الدينيَّة والسياسيَّة في مصر للمُقوقس ، وطلب منه أن يحمل المصريين على اعتناق مذهبٍ جديدٍ مُوحَّد يُوفِّق بين المذهبين الخلقدوني والمونوفيزي ، هو المذهب المونوثيلستى ، غير أنَّ كنيسة مصر رفضت هذا المذهب رفضًا قاطعًا، فاضطرَّ المُقوقس للضغط على المصريين وخيَّرهم بين أمرين : إمَّا الدُخول في مذهب هرقل الجديد وإمَّا الاضطهاد.
وقبل أن يصل الحاكم الجديد إلى الإسكندريَّة في سنة 631م هرب البطريرك القبطي بنيامين الاول ، توقُعًا لِما سيحلُّ به وبطائفته ، كان هذا القرار نذيرًا أزعج المصريين وأفزع رجالُ الدين منهم ، وبخاصَّةٍ أنَّهُ كان لِهذا البطريرك مكانة مُحببة بين الأهالي . ممَّا كان لهُ أثرٌ في سُهولة فتح المُسلمين لِمصر حيثُ وقف السُكَّان، بشكلٍ عام ، على الحياد في الصراع الإسلامي - الرومي على مصر.[/right]